كوني أنتِ القدوة، وامضي مطمئنة؛ فمن سار على درب الحق وحيداً كان عند الله أمةً وحده، وما ضاع من ثبت خطواته لله

يا طالباتَ العلم في هذا الزمان…
أنتم لسنوات الصبر عنوان، ولطرقات الثبات برهان، أنتنَّ القلّة التي لم تَهتزّ في زمن الغربة، ولم تَضعف أمام غوغاء الدنيا.

إذا قلَّ السالكين فلا تهيبوا الوحدة؛ فطريق الجنة لم يُعبَّد بالكثرة، بل خطّه الغرباء الأولون بدمائهم ودموعهم، وساروا وحداناً فكانوا عند الله أمماً.
الثباتَ الثباتَ… فإنما أنتنَّ القدوة في زمنٍ فقدت فيه القدوات، والمصابيح في ليلٍ أظلمت فيه الأنوار.

فاصبرن كما صبرت خديجة حين ثبتت، وكما ثبتت عائشة في نقل العلم، وكما سارت حفصة بالقرآن محفوظاً في صدرها…
اصبرن فإنكن على ثغرٍ عظيم، من تخلّت عنه ضاع، ومن ثبتت فيه رُفِعَت درجاتها عند الله

هذا الحديث يزلزل القلوب فهو حدّ فاصل بين هوية المسلم وثباته على دينه، وبين الذوبان في غيره
فمن تشبّه بأهل الباطل صار في زمرتهم، ومن حافظ على سمت أهل الحق كان معهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.

استظل تحت شجرةٍ ثم مضى ..كأنما يخبرنا أن العمر ظل زائل وأن المسير محتوم وأن العاقل من جمع زاده قبل أن يرحل فلا يغرنك امتداد الظل فالشمس تميل سريعاً نحو الغروب

ما أثقل الغربة حين تُغربل القلوب وتضيع الأمانات ويصبح المعروف غريباً بين الناس… هناك لا ينجو إلا من اعتصم ببيته، وملك لسانه
واشتغل بإصلاح نفسه، تاركاً ضجيج الفتن خلفه فسلامة الدين في زمن الاضطراب أعظم نصرٍ يبلغه العبد

قد يحفظ الله الأبناء ببركة أبٍ صالح كما قال تعالى: “وكان أبوهما صالحاً” ولكن الهداية بيد الله وحده يهدي من يشاء. فنوح نبيّ كريم ولم يُكتب لابنه الهدى فازرع الصلاح في نفسك وعلق رجاءك بربك فهو وحده الهادي إلى سواء السبيل.

عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه"، فإنه لا يبالغ، بل يصف حقيقة تفوق كل مشهد مخيف رأيناه أو سمعنا به. إنه الرعب الذي لا يمكن أن يُرى بالعين المجردة في الدنيا، ولكنه حقيقة مؤكدة بانتظار الجميع.
فليجعل كل مسلم هذه الحقيقة نصب عينيه: لا يهم مقدار ما جمعت أو بنيت أو حققت في الدنيا، فكل ذلك سيُترك عند حافة القبر. ما يهم حقاً هو رصيدك من الأعمال الصالحة الذي سيضيء لك وحشة هذا المنزل الأول والأفظع.

هذان الحديثان من أروع ما يُبث في القلوب حبًّا لله ولأهل الطاعة ويغرس في النفس يقينًا أن رابطة الإيمان هي أسمى الروابط وأبقاها.

الأول يُبشر المؤمن بأن محبته الصادقة في الله ليست عاطفة عابرة
بل هي عبادة تُلحقه بمن أحب ولو قصر عمله عن عملهم فكم من قلبٍ أحب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فكان معه في المنزلة بصدق محبته

والثاني يكشف عن مقام عظيم لأهل المحبة في الله الذين تحابوا لا لمصلحة ولا قرابة ولا دنيا وإنما لوجه الله وحده
أولئك الذين يغبطهم الأنبياء والشهداء وجوههم نور ومكانتهم رفعة يأمنون حين يفزع الناس ويُكرمون يوم الهلع الأكبر

والله لقد هز فؤادي ذلك المقطع هزّاً حين بكى الشيخ ابن باز رحمه الله تأثراً بأعظم بيعةٍ في التاريخ بيعة العقبة فشعرت أن القلوب ما تزال تنبض بحب أولئك الرجال الذين باعوا الدنيا ليشتروا الجنة.
اللهم وارضَ عن أصحاب نبيك واغفر لعلمائنا واجمعنا بنبيّنا وصالحي أمته في الفردوس الأعلى

تأمل ذلك اليوم العظيم… يوم يُحشر الناس حفاةً عراةً لا مال ولا جاه يسيرون على وجوههم أو يُساقون إلى مصيرهم يوم تُبدد الأستار وتُكشف الأسرار ويقف كل امرئٍ بين يدي الله لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا
فطوبى لمن أعد لذلك الموقف زادًا
من الإيمان والعمل الصالح

اعلم أن أعظم هديةٍ يمن الله بها على عبده هي هداية الرشاد والتقوى فهي عطيةٌ لا تفنى وبها يُدرك العبد أن لله الدوام والبقاء وأن كل ما سواه إلى زوال