استنطقَ الدمعُ لسان الهوى
وهتّكَ الهجرانُ سترَ الحيا

وبُحتُ بالكتمانِ من بعد ما
أبدت دموعُ العين سرَّ الهوى

يا من حياةُ النفسِ في كفّهِ
إليكَ أشكو منكَ طولَ الجفا

لم يبقَ من نفسي سوى زفرةٍ
أسلمها الشوقُ بكفِّ الردى

قد لطّف أبو نواس في شكوى الدمع إلا أنه قد سُبق إلى ذلك بألطف من قوله. فمن مليح شكوى الدمع قول أعرابي:

ولما أبت عينايَ أن تطعما الكرى
وأن تمنعا درّ الدموع السواكبِ

تثاءبتُ كي أبغي لدمعيَ حيلةً
ولكن قليلٌ ما بقاءُ التثاؤبِ

وقال بشار لأبي العتاهية: أنا أستحسنُ اعتذارك في دمعك حين قلت:

كم من صديق لي أسا-
رِقه البكاءَ من الحياءِ

فإذا تأمّل لامني
فأقول: ما بي من بكاءِ

لكن ذهبتُ لأرتدي
فطرفتُ عيني بالرداءِ

فقال أبو العتاهية: يا أبا معاذ! والله ما لذتُ في هذا المعنى إلا بمعناك، ولا اجتنيته إلا من غرسك وقولك حيث تقول:

وقالوا: قد بكيتَ، فقلت: كّلا،
وهل يبكي من الجزعِ الجليدُ؟

ولكنّي أصاب سوادَ عيني
عُوَيدُ قذىً له طَرفٌ حديدُ

فقالوا: ما لدمعهما سواءٌ،
أكِلتا مُقلتَيكَ أصابَ عودُ؟!

وممن سبق إلى هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة في قوله:

فانهلّ دمعي في الرداء صبابةً
فسترتهُ البُرد من أصحابي

فرأى سوابقَ عبرتي مُهراقةً
عمرو، فقال: بكى أبو الخطّابِ

فنفيتُ نظرتَهُ وقلت: أصابني
رمَدٌ فهاج العينَ بالتسكابِ

فاهتزّ عمروٌ عند ذاك وقال لي:
هيهات، بل هيجتَ لي أطرابي!

ومن مليح شكوى الدمع وإن لم يكن ذا بعينه في قول الآخر:

أؤمّل أن أراه لعلّ جفني
يعاوده برؤيته كَراهُ

فيبدرُ دمع عيني حين يبدو
كأنّ الدمعَ يهوى أن يراهُ

ويمنعُ ناظري نظَراً إليهِ
فعالَ مواربٍ لي في هواهُ

فصار عليّ أغلظَ من رقيبٍ
وواشٍ لا يبالي ما حكاهُ

ومن مليح شكوى الدمع قول العباس بن الأحنف:

لا جزى الله دمع عينيَّ خيرا
وجزى الله كلَّ خيرٍ لساني

نمّ دمعي فليسَ يكتم شيئا
ووجدتُ اللسانَ ذا كِتمانِ

كنتُ مثل الكتاب أخفاهُ طيٌّ
فاستدلوا عليه بالعنوانِ

ومن الشكوى القريب من هذا إلا أنها ليست للدمع قول العباس أيضا:

كتبتُ إلى ظَلومَ فلم تُجبني
وقالت: ما له عندي جوابُ

فما صرّفتُ فكري إذ أتاني
-وقد غفل الوشاة- لها كتابُ

وفيهِ الوصلُ يشرقُ جانباهُ
وقد رقّ التشكّي والخطابُ:

كتبتُ إليكَ والرقباءُ حولي
إذا ما مرّ طيرٌ بي؛ استرابوا

فقوله:
وقد رقّ التشكّي والخِطابُ

من قول امرئ القيس:

فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا
ورضتُ فذلّت صعبةً أيّ إذلالِ!

[ديوان أبي نواس، مجلد ٤، صـ١٤٥-١٤٧]

°| يمكنكم نسخ الأبيات بنقرها.