Telegram Group Search
للتغيير شروط!
ليس كلّ ما يُرى انحرافًا في واقعنا يُعالَج بالتغيير المباشر، ولا كلّ خطأٍ يُسقَط بمجرد امتلاك القوة أو الاندفاع والحماسة. فإنّ ميدان الإصلاح أدقّ من أن يُدار بالعاطفة، وأخطر من أن يُحكم بالهوى؛ إذ يحتاج إلى بصيرةٍ ناضجة، وعقلٍ موزون، ونظرٍ بعيد يُحسن قراءة المآلات قبل الإقدام على الخطوات.
وأول ما ينبغي للقادر على التغيير أن يطرق أبواب المعالجة الناعمة قبل أن يلجأ إلى التنحية أو الاستئصال، فإنّ الترميم –في الغالب الأعم– أقل كلفة من التبديل.
ثمّ لا بدّ من ميزانٍ محكم بين المصالح والمفاسد؛ فكم من واقعٍ ناقصٍ كان الصبر عليه أصلح من تغييره، لأنّ البديل لم يكن سوى الفوضى، أو كان بديلًا أشدّ سوءًا، وأعظم خطرًا، وأعمق فسادًا.
ومن هنا لم يكن التغيير الإيجابي لمجرد التغيير، بل للانتقال من حالٍ سيّئ إلى حالة حسنة، ولجلب خير الخيرين ودفع شر الشرين، بأدنى كلفة وأيسر جهد.
غير أنّ ذلك لا يتحقق إلا بتخطيطٍ رصين، تُدرس فيه المسارات، وتُقاس فيه الخيارات، وبتهيئة واقعية تمهّد لوقوع التغيير المنشود، وإلا كان الأمر حكمًا للعاطفة دون العقل، وإفسادًا باسم الإصلاح، وتدميرًا في ثوب التشييد. فما كلّ صخبٍ إصلاح، ولا كلّ قيامةٍ بركة؛ وإنما الإصلاح الحقّ ما كان على هدى، وجاء عن بصيرة، واستند إلى الحكمة، ودار حول تحقيق المصلحة ودفع المفسدة. وما سوى ذلك فتهور عابث، جالب للفتنة مهدر للموارد مشغل للكفاءات، بل ليس سوى خداع للنفس، وتوهم إصلاح بلا إصلاح، ومجرد سرابٍ يُحسبه الظمآن ماءً، فإذا جاءه لم يجده شيئًا.
نسأل الله أن يرزقنا الفقه والحكمة، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهدينا وأمتنا سواء السبيل، وأن يجعلنا مفاتيح خير مغاليق شر.
والله الهادي
1
دعوات حلّ الإخوان!

إنّ دعوات حلّ الإخوان أو غيرهم من الجماعات الإسلامية ـ لو جاءت في سياق رؤية إسلامية ذاتية تجديدية، وفي إطار ترتيبٍ بديلٍ أكثر ملاءمةً وأعمق تحقيقًا لمصلحة الأمة ـ لكانت دعواتٍ يمكن التعامل معها، والنظر إليها بوصفها اجتهادًا قابلًا للرأي والرأي الآخر، من غير شك.

أمّا أن تأتي هذه الدعوات من جهاتٍ أو شخصياتٍ مشبوهة، أو في سياق الاستجابة لمتطلبات أعداء الأمة، وفي إطار تنفيذ مخططاتهم الرامية إلى إفراغ الأمة من روح المقاومة، أو أن تصدر في مساق رغبةٍ جامحة لدى بعضهم لترسيخ استبداده، وفرض هيمنته، وإزالة معيقات تفرده في قيادة المشهد السني هنا أو هناك ـ حتى وهو لم يتأهل بعد لذلك، وهو لا يمتلك القدرة على قيادة المشهد كما ينبغي ـ فهذا مما يجب رفضه بالكلية.

ذلك أنّه في حقيقته جزء من استهداف الأمة، وخالٍ من مراعاة مصلحتها ابتداءً، فضلًا عن كونه اندفاعًا لتحقيق مصالح شخصية ضيّقة، لا أكثر.

نسأله تعالى أن يرشد الأمة إلى رشدها، ويقيها شرّ مكر أعدائها، ويجمع كلمتها على الحق، ويوحّد صفوفها على الهدى والخير، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

والله الهادي
4👌3
قاعدة في الجودة

زارني أحد العاملين في ميادين العمل الخيري من عقود، وقد أثقله تعدد المشاريع وتداخلها حتى بدا مشتت الجهد مضطرب التفكير. فقلت له: لو استعنت بأدوات الإدارة الحديثة، من استمارات تنظيم، وبرامج متابعة، وآليات تخطيط، لانتظم عملك، وتوفّر وقتك، ودقّ إنجازك.

فابتسم وقال: لا أخالفك في أن الأدوات الإدارية نافعة، ولكن دعني أذكر لك قاعدة محورية في الجودة يغفل عنها كثيرون:
إن الجودة ليست مجرد "أداة" تفرض على الموظف فيلتزم بها، وإنما هي قبل ذلك "ثقافة" تُبنى، و"قناعة" تُغرس، و"بيئة" تُهيأ، و"مهارة" تُكتسب. فلو وضعت في يد الموظف أنفع النماذج وأحكم الاستمارات، وأنت لم تُنشئ عنده بعد الرغبة الصادقة في التجويد، ولا وفرت له التدريب الذي يمكّنه من حسن الاستخدام، ولا هيّأت له بيئة تحفزه وتظهر له الثمار الإيجابية لما يفعله—فإن تلك الأدوات ستبقى مجرد أوراقٍ صمّاء لا تُنتج أثرًا، ولا تصنع تغييرا واقعًا.

إذن فقاعدة الجودة الكبرى: أن الأدوات بلا قناعة، والأنظمة بلا تدريب، واللوائح بلا تحفيز، والتخطيط بلا قلب يحمل الهمِّ ويشعر بالمسؤولية لا تثمر جودةً ولا تحقق إتقانًا. فاجعل همك الأول -متى أردت التجويد- متجها إلى تكوين البيئة المحفزة، وزراعة القناعة الذاتية، ثم درب، وضع الأدوات في الأيدي، تجد لها في مؤسستك حياة وتأثيرا، وإلا فلا تتعب نفسك، ولا تفقد مواردك

والله الهادي.
👍3
يا قوم، هل بقي تطبيع؟!

سألته: يا أخي، هل بقي في مشهد صراع أمتنا اليوم مع الصهاينة تطبيع؟
فقال: أجيبك في نقاط:
أولًا: لا يخفى عليك أنّ الصوت الذائع اليوم بين فقهاء المسلمين هو القول بحرمة التطبيع؛ لأن مؤدّاه: الإقرار بأحقّية الصهاينة في بلاد المسلمين، والتأصيل لتغللهم في أوساط بقية بلدانهم، وتسهيل تمرير مخططات تعايش المسلمين معهم، وكسر إرادة مقاومة عدوانهم من النفوس، بل وتجريم مجاهدتهم عند أعداد كثيرة من أبناء المسلمين.
وفيه أيضًا: تغافل وإعراض عن المظالم التي وقعت على المسلمين في أرض فلسطين: من قتل ونهب وإذلال وتهجير وتشريد، والتي ما تزال آثارها قائمة من دون معالجة، وإعادة صياغة مفاهيم علاقة المسلمين بالصهاينة على أسس مناقضة لأحكام الشريعة ومفاهيمها الراسخة في الموالاة والمعاداة.
هذا فضلًا عن أنّ الدول المطبّعة تتعامل مع الصهاينة انطلاقًا من مصالحها القطرية الضيّقة، المبنية على تقسيمات سايكس بيكو، دون أدنى اعتبار للتداعيات والكوارث التي تنعكس على إخوانهم المسلمين في الداخل الفلسطيني، والذين ما زالوا حتى اللحظة يلقَون على أيدي الصهاينة أشدَّ ما يخطر على قلب بشر: من قتل وتدمير وتجويع وتخويف وتعذيب وتهجير ومحوٍ لكل سبل الحياة الكريمة، وما مشاهد غزة الجريحة عنا ببعيد.
ولا يخفى أنّ مشهدًا كهذا لا صلة له البتّة بالصلح الذي تقرّه الشريعة مع الأعداء، ولا بالهدنة التي أجازها فقهاء الأمة مع غير المسلمين؛ لأن الصلح والهدنة يقومان على مبدأ تحقيق نفع متبادل للطرفين، لا على تمكين الصهاينة من مزيد من الهيمنة والتغول على مقدّسات المسلمين ودورهم ومقدراتهم، ولا على فتح بلدان المسلمين أمامهم على مصراعيها للاختراق والاستثمار والتطبيع الإعلامي والتوجيه الثقافي وحصار الدعوة والدعاة وكل التيار الإسلامي والوطني المقاوم، بما يقوّيهم، ويزيد من نفوذهم، ويُمكّن كيانهم الغاصب من الاستقرار، وشعبهم من الشعور بالأمان، واقتصادهم من الانتعاش.
فكيف إذا صاحب ذلك تلبيس للدين، وتغييرٌ للمناهج، وتضييق على التعليم الديني العام والجامعي، وتحجيم لخطب الجمعة والوعظ الديني، وحذفٌ للآيات القرآنية التي تتحدّث عن عداوتهم للمسلمين، وفرض للتغاضي عن تاريخهم الأسود، المليء بالمؤامرات والدسائس والغدر والخيانة والتحريف للحقائق؟!
فالتطبيع المنادى به إذن ليس مجرد تبادل منافع اقتصادية، ولا هو هدنة عسكرية، وإنما هو ـ في جوهره ـ تمتين للتبعية، وإعادة صياغة للرؤية الإسلامية والعقيدة الإسلامية تجاه عدوان الصهاينة والتعامل معهم. ولا أدلّ على ذلك من أنّ الهدن العسكرية قائمة بين دول المسلمين وبين دولة الصهاينة منذ عقود، ومع ذلك فإن ما يُسمّى بالتطبيع يتجاوز الهدنة والصلح معًا، ليكون أداة لتمرير اختراق صهيوني جديد للأمة شامل: سياسي وديني وتربوي وثقافي واجتماعي وعسكري وأمني ، يُعاد من خلاله تشكيل وعي الأجيال على عين العدو ومطالبه المتنامية بالهيمنة والنفوذ وفرض التبعية، ويعزز من ضعف أمتنا وهوانها وتبعيتها ونهب خيراتها والاستفادة من موقعها المحوري في طرق التجارة وخطوط الملاحة الجوية والبحرية بلا حدود.
ودعني أزيدك من الشعر بيتين: أولهما: أنّ التطبيع لم يعد مرتبطًا بما يساعد الصهاينة على الهيمنة المطلقة على فلسطين وحدها، وأنه قد انتقل مع مرور الوقت إلى مشروع هيمنة على كامل المنطقة، وسحق لكل مظاهر قوة، وإسقاط وتحجيم لكل تيار مقاوم لمشروعها في أي موضع كان، وإلى مزيد إخضاع متوالٍ وغير متناهٍ لكل تيار متطاوع معها، وأن بقاء الظن بأن التطبيع مرتبط بالسلم وحده، أو بالقضية الفلسطينية وحدها سوء فهم وخطأ استراتيجي جسيم تكذبه كل شواهد الواقع.
وثانيهما: أنّ إسرائيل ليست معنية بالتطبيع في هذه المرحلة مع كثير من البلدان، بما فيها سوريا الجديدة، وأنها تريد إعادة تشكيل المشهد من جديد حتى مع الدول التي سبق لها التطبيع معها كمصر والأردن، بما يتيح لها مزيدًا من الهيمنة والإخضاع، ومزيدًا من النفوذ وفرض الوصاية، ومزيدًا من الإضعاف والإفقار والتمزيق المجتمعي والجغرافي، والتغول على المقدرات والموارد، ومزيدًا من الحركة المسهلة لقطم مزيد من الأراضي، سواء أكان ذلك من خلال استثمار أزمة غزة مع مصر والأردن، أم خلال استثمار ملفات الأصولية والتيارات الجهادية والأقليات مع سوريا، أو من خلال ملفات ما يعرف بحزب الله والوجود الفلسطيني في لبنان.
ثانيًا: ومن العجب أنّ المسؤولين العرب الذين يعقدون اتفاقات التطبيع لا يفعلون ذلك تحت رداء رؤية إسلامية شرعية، بل تحت راية الدولة القطرية المدنية بينما نجد أن بعض طلبة العلم يتصدّون ـ متبرعين ـ لتطويع نصوص الشريعة، وليِّ أعناق وقائع السيرة النبوية لتبرير هذا المشهد التنازلي المردي، من غير ما طلب أو حاجة؛ حتى صاروا ـ في مقام التنظير ـ قياصرة أكثر من القيصر نفسه! فراحوا يقاربون واقعًا منحرفًا بصورة ذهنية مفترضة لا وجود لها في الواقع، ثم يلبسونها لباس الشرع، فتتحوّل -تحت مسوغات شرعية
2👌1
متوهمة- إلى تحريف للحقائق، وعبث ظاهر في تنزيل أحكام الشريعة على غير محالّها، وفتنة كبرى تهدّد عقول المسلمين ودينهم، وتصيب وعيهم في مقتل.
ثالثًا: إنّ مؤسْلِمةَ التطبيع هؤلاء يغفلون عن حقيقة المشروع الصهيوني وحيثياته على الأرض، وأنّ أطماعه لم تزل قائمة في أن يقيم دولته الممتدة من النيل إلى الفرات، وأن يكون شرطيّ المنطقة الأول، الذي يفرض أجندته السياسية، والأمنية والثقافية والاجتماعية على الجميع، ومن لم يخضع له ويخنع لكافة مطالبه حطّم رأسه. والعجب أنّ قادة الصهاينة، وفي مقدمتهم نتنياهو، يصرّحون بذلك ليل نهار، ومع ذلك ترى بعض الغافلين يسوّقون صورة الصهاينة كأنهم حمائم سلام وطلاب تعايش! ولا أدري كيف تغيب تلك الحقائق عنهم، وغزّة قد دُمّرت عن بكرة أبيها، وحوصِر أهلها برًّا وبحرًا وجوًّا، بأيدي شداة التطبيع وحمائم السلام هؤلاء؟!
رابعًا: يا صاحبي، خذ هذه الحقيقة المشاهَدة: لقد انتهى زمن التطبيع الذي كان فيه المحتل يمنح المطبّعين شيئًا من المصالح السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية. فالزمن قد تغيّر، مع اتساع دائرة الهوان العربي، وتجذّر الفرقة والتمزّق، وانهيار الثقة بين دول المنطقة، وتراجع المفهوم القومي، وتسيد الدولة القطرية المتناهية في الضعف. وفي المقابل ازدياد قوّة الصهاينة، وتنامى نفوذهم وهيمنتهم الباطشة على كافة المنطقة.
وعليه، فإن استمرار هؤلاء في التطبيل لهذا التطبيع المريع، الذي يهدّد الهوية الإسلامية، والثوابت الشرعية، والمصالح العليا للأمة، أمر لا يُفهم لا في سياق شرعي، ولا قومي، ولا حتى في سياق وطني قطري ضيّق.
وختامًا: فعلى المصلحين أن يدركوا أنّ المشاركة في تسويق التطبيع ـ فضلًا عن كونه خيانة لله ولرسوله ﷺ ـ لن يرد عن الأمة شيئًا من المخاطر التي يأملون تجنّب دولهم لها، وأنّ الواجب اليوم هو أن يسعى الجميع إلى تقوية الأمة بكل سبيل: عبر تعزيز التدين، وتحكيم الشرعة بما وسع، والأخذ بأسباب القوة المتاحة، وتقوية أواصر الإخاء والانتماء لأمة الإسلام، والتأصيل لوحدتها والتخطيط لنهوضها.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بطرح مشروع إيماني حضاري جامع، يعزّز الهوية، ويغرس القيم، ويجمع الصف، ويعيد الناس إلى دينها، ويأخذ بأسباب القوة بما يعيد للأمة رشدها وحيويتها وعزتها واعتبارها وتأثيرها، ويخرجها من حال التيه والضياع والتبعية والركود، بدلًا من تبريرهم اللهاث وراء موائد الآخرين ومشاريعهم التي تناقض هويتنا وتصادم مصالحنا من كل وجه، والله غالب على أمره ولكن أكثرهم لا يعلمون.
والله الهادي
👍21👌1
للحوار آداب!

يضيق صدري كثيرًا بأولئك الأشخاص الذين يُقبلون على الحوار لا ليُبادلوا الفكر بالفكر، ولا ليأخذوا ويعطوا في رحاب النقاش، ولا ليضعوا رؤاهم على طاولة يتقابل عندها العقل بالعقل، في دائرة يفتح فيها المجال للمحاور، ويُرتجى سماع قولٍ صائب، أو رأيٍ حسنٍ.

بل إنّ بعضهم ليدخلون ساحة الحوار وهم لا يريدون سوى فرض رأيٍ بعينه، ورسم طريقٍ لا يسعك إلا الإذعان له، والسير على منواله، أو تأييده بالمدح والإشادة، والتصفيق له تصفيق المريد لشيخه، أو التابع لسلطانه.

ومع أنّ الطرح الذي يُصرّون عليه لا يخرج – في الغالب الأعم – عن كونه طرحًا محتملًا، وأنّ الرأي الذي يفرضونه أو يستميتون في التطبيل له ليس بأولى – في سياق العقل السليم، أو بحسب معطيات المصلحة متى قُلبت زوايا النظر – من الرأي الذي يُسقطونه، أو يمنعونك من مجرد مقاربته أو الإشارة إليه!

ولا شك أنّ هذا النهج الاستبدادي في الحوار يُعطّل العقل، ويُثير السخط، ويستفز النفس السويّة، ويحجب مسالك النضج، ويمنع من صفاء الطرح وتسديده. فإنّ للحوار الراشد قواعده وآدابه التي لا يستقيم بدونها، ويجب على المحاور أن يلتزم بها، أيًّا كان اسمه أو مقامه أو خبرته أو عمق طرحه، ما دام في ساحة حوار، أو على طاولة نقاش.

فرحم الله امرأً صان محاورته عن العوج، وألزم نفسه فيها مسالك الرشد ودروب الأدب؛ فذاك هو الحوار الذي يثمر، والجدال الذي ينضج، والنقاش الذي يفتح الآفاق، ويُوسّع دائرة النظر، ويُقرّب بين العقول والقلوب.

والله الهادي.
2
أزمةُ فَهمِ المصطلحات!

يُلحَظ في مسار تواريخ العلوم أنّ المصطلحات لا تثبت على معنى واحد، بل تتبدّل دلالاتها باختلاف الأزمنة والثقافات والبيئات، بل وحتى باختلاف الأفراد. فما يُراد بالمصطلح في عصرٍ ما قد يتغيّر في عصرٍ آخر، وما يقصده به شخصٌ بعينه قد لا يكون هو عين ما يقصده به غيره. وهكذا تتولّد الإشكاليات المعرفية وتتشعّب الخلافات الحوارية؛ إذ لا يكون الخلاف في الأصول الكلية ولا في القواعد المرجعية، وإنما في ضبط مدلول اللفظ المستعمل وتحديد حدوده.

ولهذا ترى في مجال النقاش أن فريقًا يمدح مصطلحًا ما، في حين يذمّه آخرون، مع أنّهم في حقيقة الأمر متفقون على الأصول والضوابط، غير أنّ التباين نشأ من تغاير الفهم لمعنى المصطلح. والمتأمل يدرك أنّ كثيرًا من النزاعات الفكرية والفقهية كان يمكن أن يُحسم لو أُحكم ضبط المصطلحات منذ البداية، فجُعل لكل لفظٍ معنى محدد واضح يُتفق عليه قبل الخوض في المدارسة والحوار.

ومن الشواهد البارزة في تراثنا مصطلح النسخ. فقد أراد به الأصوليون رفع الحكم الثابت بخطابٍ متقدّم بخطابٍ متراخٍ عنه، بينما وسّع المفسرون دائرته ليشمل التخصيص والتقييد وبيان المجمل. وهكذا لم يكن الخلاف نابعًا من اختلاف في النصوص، وإنما من اتساع أو ضيق الدائرة الدلالية للمصطلح. ولو استقرّ الرأي على تحديد موحّد، لانطفأت مساحة معتبرة من ذلك النزاع.

وفي ساحتنا الفكرية المعاصرة يبرز مصطلح الأصولية. فهو في الأدبيات الإسلامية يعني الرجوع إلى الأصول الأولى: الكتاب والسنة الصحيحة، وهو معنى محمود في ذاته، غير أنّ الخطاب الإعلامي الغربي حمّله معنى آخر وجعله قرين الانغلاق والتعصب. ومن ثمّ يتعثّر الحوار، إذ يتحدث المسلم عن العودة إلى المصادر النقية، بينما يفهم محاوره الغربي أنّه يتحدث عن انغلاق فكري يناهض الانفتاح. وهنا تنكشف خطورة غياب التحرير الاصطلاحي في توليد جدلٍ عقيم وصراعٍ موهوم.

ومثل ذلك أيضًا مصطلح الحرية، الذي يرفعه بعضهم شعارًا للتحرر من الاستبداد والظلم، وهو معنى نبيل، بينما يجعله آخرون عنوانًا للانفلات من الضوابط والقيم، وهو معنى مذموم. وهكذا يتولّد الخلاف لا من حيث المبدأ، بل من جهة المعنى المقصود، ولو ضُبط ابتداءً لانكشف وجه الاتفاق وزالت أسباب النزاع.

إنّ هذه الأمثلة كلها تشير إلى حقيقةٍ جوهرية: أنّ الحوار لا يستقيم ولا يؤتي ثمرته إلا بتحرير المصطلحات وضمان التوافق عليها. فاللغة هي وعاء الفكر، وضبطها تأسيسٌ للتفاهم، وصونٌ للأوقات، وحفظٌ للنفوس من التباعد، وضمانٌ لنقاشٍ مثمر راشد. ومن ثمّ فإنّ تحرير المصطلحات ليس ترفًا معرفيًا ولا تكلّفًا جدليًا، بل هو شرط لازم للفهم السديد والتواصل الحضاري الرشيد.

واللهُ الهادي.
مصطلح "الحضارة" بين حضارتين!

وقع بين يدي البارحة كتاب جديد للمفكر والباحث، د. محمد السلومي، بعنوان: "سؤال الحضارة: في كتابات المفكر معالي الشيخ صالح الحصين رحمه الله"، من مطبوعات دار آفاق المعرفة – الرياض، والذي بحسب ظني، قد وفق فيه الكاتب بإبراز هذا الجانب الهام من فكر فلتة مجتمعه: عمقًا ونضجًا واستشرافا، وفريد زمانه: همة وأفقا وحركةً، وثوري عصره: زهداً وعبادةً وتواضعا، أعني به الشيخ الحصين – أسكنه الله الفردوس الأعلى من الجنة. ذلك الرجل الذي ظلمه محبوه بعدم إبرازهم لفكره الثاقب وأطروحاته الثرية، وشخصيته الفذة في ساحتي الأمة: الفكرية والتربوية.

وبلا شك، فإن مصطلح الحضارة، الذي يعرج عليه الكتاب ويتناوله من جوانب مختلفة، متداول مشهور بين المفكرين، لكنه ليس بالوضوح الذي يتوهمه كثيرون، إذ يختلف مدلوله باختلاف المنطلقات العقدية والخلفيات الثقافية والاجتماعية. وإذا نظرنا إلى الحضارة في معناها العام، وجدناها جملة ما يبلغه الإنسان من رقيّ في حياته المادية والمعنوية، وما يُشيِّده من نظم وقوانين، وما يقدّمه من معارف وفنون، وما يسلكه من أخلاق وقيم. فهي مركّب يجمع بين الإيمان والمادة، وبين العقل والسلوك.

غير أن تاريخ الإنسانية أبان عن اختلاف وجهة هذا المفهوم وتطبيقاته بين الحضارات. فقد قامت، مثلا، الحضارة الإسلامية منذ فجرها – وهو ما يبرزه الكاتب – على أساس حاكمية الوحي الإلهي المتوافق مع العقل السليم والفطرة السوية، والمرتكزة على ربط العمران المادي بالهدي الرباني، والتي جعلت من القضايا العقدية والقيم الأخلاقية مرجعًا موجّهًا للتقدم العلمي والعمراني. قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]. فالعمران في التصور الإسلامي وسيلة إلى غاية أسمى، وهي عبادة الله وطلب رضوانه، وإذاعة الحق، وإقامة العدل بين عباده.

أما الحضارة الغربية المعاصرة، فقد قامت على أساس مغاير، إذ نشأت في سياق فصل الدين والمرجعية الغيبية عن الحياة، واتجهت إلى جعل الإنسان مركز الكون، تُعرّف الخير بما يراه العقل المصلحي، والحق بما ينتجه الفكر البشري المادي القاصر والمضطرب، والتقدم بما تحققه التقنية والصناعة. فأضحت حضارة ذات بعد مادي غالب، وإن زخرت بمنجزات علمية هائلة، فإن بنيانها يقوم غالبًا على فراغٍ قيمي وعلى نسبية أخلاقية تتحكم بها المصلحة والهوى، ولذا فهي على الدوام متغيرة لا تستقر على حال.

ومن هنا يظهر الفرق الجوهري بين الحضارتين: ففي الحضارة الإسلامية الوحي يقود الحياة، والقيم توجّه الصناعة والتقنية والإنجازات المادية، والغاية أخروية. أما في الحضارة الغربية اليوم: فالمادة تهيمن على المعتقدات والقيم، والمنجز المادي أو العلمي يتجاوز الضوابط، والغاية دنيوية صرفة تصهر الإنسان في خضم قيم الإنتاج والاستهلاك.

ومع رفضنا التام، من منطلق إسلامي، لتغيب مرجعية الوحي الرباني في الحضارة الغربية، وعدم ارتكازها على توحيد الله وحقه بالعبودية والشكر والخضوع، فإن ذلك لا يمنع من الاعتراف بما فيها من تميز مادي وتقدم في العلوم والإدارة والمعارف، ولا يمنع من انتقائنا الناضج المفرق بين نافعها من ضارها، والرافض لما يناقض هويتنا وقيمنا وعبودتنا لخالقنا المليك تعالى. وما لم يتحصن المسلم بعقيدته الربانية وهويته الحضارية، فإنه سرعان ما سينزلق في التبعية الفكرية والمادية المدمرة، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته: "إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب".

ومن هنا يكون التحدي الأكبر اليوم: أن يدرك المسلم أن الحضارة ليست مجرد أدوات ومنتجات فحسب، بل هي رؤية كلية للكون، وللإنسان، وللحياة في الدنيا والآخرة. وأن إحياء الحضارة الإسلامية لا يتحقق فقط بمجرد محاكاة الغرب في مادياته وجوانب تقدمه، بل بمراعاة الخصوصية العقدية والحضارية لهذه الأمة، وبالجدية في النهوض، وإحياء مساحات التعلم والعمل، وبإعادة وصل العلم بالعقيدة، والنهضة بالقيم، والعمران بالآخرة، بصورة تحفظ للإنسان وظيفته الربانية في هذه الحياة وحقه وكرامته، وتعلي من مسؤوليته، وتربطه بخالقه، وتُقيم العدل، وتصون الحق، وتحيي الضمائر، وتحضّه على الإحسان إلى بني جنسه.

وهذا، بلا أدنى شك، لا يحققه إلا المنهج الرباني الذي يجمع بين الدعوة إلى عمارة الدنيا والعمل للدار الآخرة. والكتاب ثري بإبراز هذه المفاهيم والمعاني للحضارة في كتابات الشيخ صالح الحصين رحمه الله، والتي جمعها المؤلف من أطروحاته وكتبه، بتلخيص ماتع وطرح موجز.

وختامًا، قارئي الكريم، أنصحك بالتعريج على الكتاب، فإنه عميق مفيد. رزقني الله وإياك العلم النافع، والفكر الناضج، والعمل الصالح، إنه جواد كريم.

واللهُ الهادي.
1
لطفا حماس، أوقفوا هذا التجني والسفه
من يلقي نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي يلحظ في ثنايا هذه الحرب الأخيرة ما يصدر من بعض حمقى شباب حماس وكذبة أنصارها من العجب العجاب، ولولا أن الأمر قد توسع وازداد حتى تجاوز الحد إلى مرحلة التأثير في صناعة الرأي العام في مجتمعات المسلمين لما خضت فيه ولا تناولته، ولكن يبقى واجب المشاركة في ترشيد الخطاب قائما، كما يبقى بذل النصح أمرا لا يسع عاقل إغفاله.
فحماس اليوم وهي في مجابهة طغيان الصهاينة وإجرامهم أحوج ما تكون إلى نصرة وبذل وتثبيت، غير أن قادتها وناشطيها وأنصارها يحتاجون كذلك إلى نصح يجلّي مواطن الخلل ويقوم جوانب النقص، فالكمال عزيز وكل بني آدم خطاء، وليس من شرط سلامة القصد أو صحة العمل أن يبرأ صاحبه من الزلل، ولذا فالواجب أن يبذل له مع التأييد في موضعه، النصح في موضعه، فكلاهما نصرة، وليس أحدهما بأولى من الآخر.
ولعل من أبرز مواطن الخلل التي وقع فيها -وما يزال- بعض شباب حماس وناشطيها على منصات التواصل الاجتماعي، أمران خطيران، لا يجوز السكوت عنهما لا من عقلاء الحركة ورشدتها، ولا من علماء الأمة ودعاتها لما ينطويان عليه من كذب وظلم وتجاوز لحدود الحق والعدل، ولما يترتب عليهما من عواقب وخيمة إن لم ينكرا ويبتر شرهما.
أول ذلك الفجور في تشويه علماء الأمة والتجرؤ على مكانتهم فقد بلغ الأمر ببعض السفهاء أن صاح: "أبلغوا علماء الأمة أن غزة تلعنهم"، فهل حقا تلعن غزة علماء الأمة الذين حمَّلهم بعض قادة الحركة وناشطيها فوق ما يطيقون، مطالبين إياهم بأن يتحولوا إلى مجرد أبواق تردد التصريحات، وتصدع بالبيانات، وتسوِّغ الأفعال، وتقود المظاهرات، وتقتحم السفارات، وتصمت عن الأخطاء والزلات، مع أن ميدان العلماء الأصيل هو البيان والتبليغ لا أن يزج بهم في جوانب ليست من اختصاصهم، أو لا قدرة لهم في بلدانهم القيام عليها، ومع ذلك يخرج بعض الناشطين بأوقح عبارة مخاطبا العلماء ليقول: "غزة تلعن صمتكم، وتبصق على مؤتمراتكم المنمقة، وبياناتكم التي لا تسمن ولا تغني من دم، أنتم لستم علماء، أنتم شهود زور"، والأدهى أن هذا الإسقاط المتعمد لمكانة العلماء في أعين الأمة يقابله ثناء مفرط من هؤلاء أنفسهم على سفاحي إيران وأكابر مجرميها الذين دمروا المدن وانتهكوا الأعراض وأراقوا الدماء وشردوا الشعوب بل ويقيمون لهم المآتم، ويرفعون لهم الدعاء في الخطب والقنوت، وكأن خذلانهم أهون مع أنهم أقدر ومن كان يعلم بقرار الحرب قبل وقوعها إن لم يكونوا قد شاركوا في صنعه، فبأي ميزان يقع هذا؟!، وبأي عقل أو دين يوزن؟!
وثانيهما، الفجور في تخوين الأمة واتهامها بالتخاذل مع أن الأمة من محيطها إلى محيطها لم تدخر وسعا في نصرة أهل غزة: دعاء وتبرعا وتأييدا وتعريفا بالجرائم الصهيونية والمآسي الغزاوية، فالشعوب كلها قد وقفت، وحرك الدعاة أبناء المسلمين لنصرة غزة وحماس، بل إن شعوبا كاملة دفعت أثمانا باهظة من أجل ذلك فالسودان أطيح بحاكمه وسحق شعبه لدعمه تسليح حماس، ومصر أسقط رئيسها المنتخب محمد مرسي لأنه جاهر بدعمها ومرر السلاح إليها، وليبيا غرقت في الفوضى وكان من أبرز أسباب ذلك انخراطها في تسليح الحركة، فبأي وجه بعد هذا يخون هؤلاء الناشطون الأمة، أقلّه إن غاب الوازع الديني الآمر بالعدل والإنصاف، فتحقيقا للمصلحة السياسية، فشعوب الأمة هي الحاضنة الحقيقية لحماس وهي سندها الأمين بعد الله تعالى أما إيران فهي صاحبة مشروع هيمنة تستثمر القضية الفلسطينية لتحقيق أهدافها وتبييض سوأتها، وتسقط جماهيرية خصومها في المنطقة وتخونهم وتجردهم من شعبيتهم، وليست بمعنية لا بتحرير القدس وفلسطين، ولا بنجدة غزة، وليست بجمعية خيرية، تعطي لوجه الله تعالى، كما يتوهم بعض الطيبين من ناشطي الحركة ومغفليها.
وختاما، فالمأمول من عقلاء حماس ومفكريها أن يوقفوا هذا العدوان الظالم والتجني السافر المورث للعداوة والبغضاء من ناشطي الحركة وأنصارها، وأن ينهوا عن هذا السفه والكذب فإنه ضار بالحركة قبل غيرها، وضار بقضية المسلمين في فلسطين، بل وبالأمة كلها لدوره في تفتيت الصف وتمزيق اللحمة وصرف الناس عن القيام بواجبهم تجاه غزة وأهلها.
نصرهم الله وعجل بفرجهم ورفع الكرب عنهم وتقبلهم في عباده المخلصين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله الهادي
👍106👌1🤝1
لماذا لا يسمعون النصيحة؟

يخيَّل إليك أحيانًا أن بعض القيادات المؤسسية والمجتمعية قد أوصدوا أبواب قلوبهم، فلا يطرقها صوت ناصح، ولا ينفذ إليها نور مذكِّر. وليس الأمر دائمًا متعلقًا بجانب موضوعي فحسب؛ فإن النفس حين تُعجب برأيها وتغترّ بمكانتها ترى في كل نصيحة انتقاصًا من مقامها، وفي كل ملحوظة إيرادًا لما لا ينبغي لمثلها أن يُذكَر به. وهكذا يكون الانتفاخ والاعتداد بالذات حاجبًا بينها وبين الإصغاء للنصح.

وحين يكثر على المرء بحثُ جانبٍ، وتطول المناقشة والجدال حوله، تمتلئ داخله المساحات، فلا يبقى لديه متسع لاستقبال طرح جديد، فيُرفض النصح لا لبطلانه، بل لأن النفس مثقلة ممتلئة لا تجد لسماع النصيحة مسلكًا. ثم يجيء الوهم الأكبر، حين يتخيّل المرء أنه بلغ الغاية واستوفى المعرفة وأحاط بجوانب المسألة، فلا يرى بعد ذلك داعيًا أو حاجةً إلى أدنى تقييم أو مراجعة.

ومثل ذلك من اعتاد على الدوام أن يُسمع له ويُمتثل أمره؛ فقد يدخل عليه الشيطان فيستثقل أن يصغي مثله لغيره. وهنا يظهر جوهر الفرق بين قلبٍ متواضع باحث عن الحق أينما وجده لزمه، ولذا فهو يرى في النصيحة شفاء وهدية، وبين قلبٍ ممتلئ بالغرور، أو مفعم بالامتلاء، أو مستسلم لوهم الاكتفاء، أو متربّع على منبر القيادة والتوجيه لا يتزحزح عنه.

وأمام ذلك فقد كان من صنيع الحكماء، ومن تمام العقل وصفاء النفس وكمال التجرد للحق، أن يرى المرء في إصغائه للنصيحة مزيد شرف وقوة، وأن يوقن أنّ القلب لا يكون حيًّا متجدّدًا مهديًّا إلا ما دام منفتحًا على التعلّم وسماع النصيحة. أما من أغلق بابه عن ذلك، فإنه يكون قد أغلق على نفسه سبيل تسديدٍ ودرب كمالٍ وهدايةٍ.

والله الهادي.
4
2025/08/28 20:52:43
Back to Top
HTML Embed Code: