Telegram Group & Telegram Channel
الوصْل غاية الوالِه، ومنتهى أمل العاشق، ولكن يد الأيام عنه -إلا ما شحّ- مغلولة، ولذا أتعس الغرام أهله. ولأجل ذاك كاد معظم شعر النسيب والغزل أن يكون تشوّقًا محضًا، ومديحًا مسهبًا للوصل، وهجاء طويلًا للعوائق الحائلة دونه، كالرقباء ونأي الديار وتعاكس الظروف. فإن استحكمت الفُرقة، واستحال اللقاء، كان ما تعرف من التفجّع المسترسل، والكآبة الداهمة. وهنا ذهب بعض الشعراء مذهبًا خاصًا، حيث وجدوا في يقينهم بالآخرة؛ ملاذًا يعلقون عليه آخر آمالهم بالوصال، ولم يكن ذلك إلا بعد ظهور شمس الشريعة ونور الإسلام، فانظر مثلًا لعروة بن حزام وقد أولع بمحبوبته عفراء ولعًا شديدًا، وبات يشهد حضورها في كل موضع، ويأمل مثولها في كل وجود، يقول:
ألا ليتَنا نحيَى جميعًا وليتَنا
إذا نحن مُتنا ضمَّنا كفنانِ
وإني لأهوى الحشرَ إذ قيل إنني
وعفراء يوم الحشر ملتقيانِ
فقد ذكر الموت، وسبقه إلى ذلك غيره، لكنه زاد وأربى وذكر هواه للحشر، ومعلوم أن الحشر موضع للفزع والخوف من هول المطلع، وشدة الحساب، إلا أن ما به أنساه ذلك كله، فإن كل موضع أو بقعة تسمح باللقاء فهي جديرة بالحبّ، وهذا مذهب لا أستحسنه. وفي هذا المعنى قول ابن زيدون في نونيته الخالدة وهو ألطف:
إن كان قد عز ّفي الدنيا اللقاء ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
ولكن فاتهما ذكر الجنة، والطمع في اللقاء بها، فهي الغاية، وأحسن مواضع الاجتماع جملةً. وإذا ارتفعت بهذه المعاني إلى فوق سترى أن الموصوف آنفًا هو رمز لسائر أحوالك، فلا تنفك نفس عن وَلَه لمحبوب من الأناسي أو المحالّ أو الجاه أو المال، فلا بد لكل امرئٍ من إرادة متحركة ونزوع متجدد، ولا يتخلف ذلك إلا لعطب عارض، أو تلف لا حيلة فيه، وهو يرجو «اللقاء» يومًا ما، ولو يأس لترك، ولكن نفسه مفطورة على الأمل ومطبوعة على الرجاء في الجملة. وكلما كان المرجوّ داخلًا في الأهواء والمشتهيات القريبة كان الشقاء بطلبه أقبح، فإذا ارتفع الرجاء ليكون إلى العالم العلوي والأحوال الكاملة في النفس والجسد -مما لا يستطاع بلوغه في هيكل الطين- كان التعب في دركه أشرف وأنزه.
كتب هنري جيمس في روايته "رودريك هدسن": «لقد تعبت من نفسي، ومن أفكاري وشؤوني الخاصة، ومن صحبتي الدائمة لذاتي.. قيل لنا إن السعادة الحقيقية تكمن في أن يخرج المرء من ذاته؛ ولكن ليس المهم أن يخرج المرء من ذاته فحسب، بل يجب أن يبقى خارجًا؛ ولكي يبقى هناك يجب أن يكون لديه مهمة تستغرقه»، فلا بد من «الخروج» حتى تتهيأ النفس لـ«دخول» عالم القلوب السليمة، والنفوس الساطعة، التي تجعل مهمتها الخروج من هذا العالم بأقل الخسائر، وتعول على "اللقاء" هناك بكل المحبوبات.⁩



group-telegram.com/aalwhebey/774
Create:
Last Update:

الوصْل غاية الوالِه، ومنتهى أمل العاشق، ولكن يد الأيام عنه -إلا ما شحّ- مغلولة، ولذا أتعس الغرام أهله. ولأجل ذاك كاد معظم شعر النسيب والغزل أن يكون تشوّقًا محضًا، ومديحًا مسهبًا للوصل، وهجاء طويلًا للعوائق الحائلة دونه، كالرقباء ونأي الديار وتعاكس الظروف. فإن استحكمت الفُرقة، واستحال اللقاء، كان ما تعرف من التفجّع المسترسل، والكآبة الداهمة. وهنا ذهب بعض الشعراء مذهبًا خاصًا، حيث وجدوا في يقينهم بالآخرة؛ ملاذًا يعلقون عليه آخر آمالهم بالوصال، ولم يكن ذلك إلا بعد ظهور شمس الشريعة ونور الإسلام، فانظر مثلًا لعروة بن حزام وقد أولع بمحبوبته عفراء ولعًا شديدًا، وبات يشهد حضورها في كل موضع، ويأمل مثولها في كل وجود، يقول:
ألا ليتَنا نحيَى جميعًا وليتَنا
إذا نحن مُتنا ضمَّنا كفنانِ
وإني لأهوى الحشرَ إذ قيل إنني
وعفراء يوم الحشر ملتقيانِ
فقد ذكر الموت، وسبقه إلى ذلك غيره، لكنه زاد وأربى وذكر هواه للحشر، ومعلوم أن الحشر موضع للفزع والخوف من هول المطلع، وشدة الحساب، إلا أن ما به أنساه ذلك كله، فإن كل موضع أو بقعة تسمح باللقاء فهي جديرة بالحبّ، وهذا مذهب لا أستحسنه. وفي هذا المعنى قول ابن زيدون في نونيته الخالدة وهو ألطف:
إن كان قد عز ّفي الدنيا اللقاء ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
ولكن فاتهما ذكر الجنة، والطمع في اللقاء بها، فهي الغاية، وأحسن مواضع الاجتماع جملةً. وإذا ارتفعت بهذه المعاني إلى فوق سترى أن الموصوف آنفًا هو رمز لسائر أحوالك، فلا تنفك نفس عن وَلَه لمحبوب من الأناسي أو المحالّ أو الجاه أو المال، فلا بد لكل امرئٍ من إرادة متحركة ونزوع متجدد، ولا يتخلف ذلك إلا لعطب عارض، أو تلف لا حيلة فيه، وهو يرجو «اللقاء» يومًا ما، ولو يأس لترك، ولكن نفسه مفطورة على الأمل ومطبوعة على الرجاء في الجملة. وكلما كان المرجوّ داخلًا في الأهواء والمشتهيات القريبة كان الشقاء بطلبه أقبح، فإذا ارتفع الرجاء ليكون إلى العالم العلوي والأحوال الكاملة في النفس والجسد -مما لا يستطاع بلوغه في هيكل الطين- كان التعب في دركه أشرف وأنزه.
كتب هنري جيمس في روايته "رودريك هدسن": «لقد تعبت من نفسي، ومن أفكاري وشؤوني الخاصة، ومن صحبتي الدائمة لذاتي.. قيل لنا إن السعادة الحقيقية تكمن في أن يخرج المرء من ذاته؛ ولكن ليس المهم أن يخرج المرء من ذاته فحسب، بل يجب أن يبقى خارجًا؛ ولكي يبقى هناك يجب أن يكون لديه مهمة تستغرقه»، فلا بد من «الخروج» حتى تتهيأ النفس لـ«دخول» عالم القلوب السليمة، والنفوس الساطعة، التي تجعل مهمتها الخروج من هذا العالم بأقل الخسائر، وتعول على "اللقاء" هناك بكل المحبوبات.⁩

BY عبدالله الوهيبي


Warning: Undefined variable $i in /var/www/group-telegram/post.php on line 260

Share with your friend now:
group-telegram.com/aalwhebey/774

View MORE
Open in Telegram


Telegram | DID YOU KNOW?

Date: |

Artem Kliuchnikov and his family fled Ukraine just days before the Russian invasion. "We as Ukrainians believe that the truth is on our side, whether it's truth that you're proclaiming about the war and everything else, why would you want to hide it?," he said. Sebi said data, emails and other documents are being retrieved from the seized devices and detailed investigation is in progress. For tech stocks, “the main thing is yields,” Essaye said. The next bit isn’t clear, but Durov reportedly claimed that his resignation, dated March 21st, was an April Fools’ prank. TechCrunch implies that it was a matter of principle, but it’s hard to be clear on the wheres, whos and whys. Similarly, on April 17th, the Moscow Times quoted Durov as saying that he quit the company after being pressured to reveal account details about Ukrainians protesting the then-president Viktor Yanukovych.
from us


Telegram عبدالله الوهيبي
FROM American